تدور عقارب الساعة، تمضي الأيام والشهور والسنوات .. الكثير من القصص والأحداث تتخلل ذلك ما بين لحظات أشبه بعواصف هوجاء وأخرى تمر علينا كقطرات المطر الباردة .. تتبدل الأحوال وتتقلب، فهذا حال الدنيا لا راحة ثابتة و لا ألم يدوم لكن يبقى السؤال من الفائز والخاسر يا ترى في هذه المعركة الزمنية ؟ وهل حقاً هي مسألة فوز وخسارة في نهاية المطاف؟
الوقت، مسألة عظيمة في هذه الحياة القصيرة . كثير من الناس اليوم يضيع وقته ويندثر دون أي فائدة حقيقية وأقصد بالفائدة هنا إما فائدة دنيوية أو فائدة أكبر للحياة الحقيقية فكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنها وإن بناها بشر خاب بانيها
نعم أتفق معك عزيزي القارئ أن التوافه اليوم قد طغت على المشهد التقني وأقول التقني بالتحديد لأنه لا مناص من إنكار أن معظم الأوقات اليوم تُقضى أمام الشاشات وبما أن التوافه طاغية هنا فلهذا تأثير ليس فقط على الوقت بل حتى على عقول بعض الناس وطريقة تفكيرهم وبناء آراءهم .
لنعترف أن أكثر ما تُقضي عليه الأوقات اليوم بشكل عام تقنياً وحياتياً إما لعبة أو هوس بيوميات مشهور أو مشهورة لا يقدمون أدنى فائدة وأقصى ما يهمهم " ارفع الشاشة " أو أيضاً جلسات مطولة لا طائل من وراءها قد تكون مجلبةً للهم والغم لصاحبها لما فيها من الغيبة والنميمة وعُتمة الأحاديث .
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في أول آية من سورة الأنبياء : " اقتترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ مُعرضون ".
يجب أن لا نُنكر أننا في غفلة طالما أن معظم أوقاتنا تضيع هدراً وبلا إستثمار وبما أن إدراك المُشكلة والإعتراف بها هو أهم جزء من الحل فمالذي يمنع من تعديل إتجاه بوصلة أوقاتنا لما هو أنفع وأفضل بكثير مما يطفوا على السطح اليوم !؟
لأنه في نهاية المطاف، أنت أيها الإنسان بمقدورك تعويض كُل شيء في حياتك .. بمقدورك النهوض من الفشل والتشافي من حوادث الأيام، لازال بمقدورك أن تتوب وتعود إلى الله فرحمته سبحانه وسعت كل شيء لكن المُخيف بحق هو أن الوقت هو الشيء الوحيد الذي لا يتعوض في حياتك .. الدقائق والثواني التي مرت وأنت تقرأ هذه الكلمات الآن مرت وإنقضت ولن تعود أبداً .. ولن يبقى لك فيها شيء إلا ما ذهب في رصيد الإستثمار .
توقف قليلاً، أليس الأمر مُخيف بحق؟ أن يذهب شيء ولا يعود أبداً ؟ ألا يشبه ذلك " الموت " ؟ لكن الموتى سيُبعثون ويلتقون والأدهى والأمر أنهم سيُحاسبون على الشيء الوحيد هذا الذي لن يُعوض في حياة البشر ؟ فيما أفنوه وكيف أفنوه ؟
هذه ليست دعوة للترهيب، وليست دعوة أيضاً لقتل الترفيه من حياة البشر.. فلا أحد يمكنه أن يظل في المحراب منذ أن يستيقظ حتى يعود لمضجعه .. ولا أحد يقوى على الجلوس بين الكُتب طوال حياته .. سينهار بلا شك !
هي دعوة للتوازن، دعوة للعودة خطوة واحدة للوراء، دعوة لمراجعة ما ضاع وإنتهى وإستقبال ما ظل وبقى .. لأن ما يدعو للرهبة والخوف بحق بجانب ما نعيشه من ضياع للأوقات هو التشبث بهذا الضياع والإعتقاد الخاطىء عند الكثير بعدم القدرة على العيش بدونه .. من يرضى يترك " جلسةَ " أهدرت وقته؟ من يوافق على حذف " تطبيق " أنهك عقله وجسده؟ من مُستعد لتخصيص ساعتين أو حتى ساعة من يومه يُنمي فيها ذاته وقدراته أو يتقرب فيها إلى الله أكثر ؟
لماذا التنافس على التفاهات بات مُنتشراً اليوم ؟ ذاك يصور حيثيات يومه ورقم من 5 أو 6 خانات من المتابعين يراقبون بإهتمام وكأن يومه وزياراته الإعلانية المتكررة حدث سيُغير حياتهم أو سيُضيف على العالم شيء جديد .. وآخر يمارس نفس الشيء بتفاهات أقل أو أكثر وهذا الرقم من المتابعين لا يعدو كونه " مُنتج " للأسف بالنسبة له. وفي موضوعنا السابق الذي يراجع الفيلم الوثائقي ذائع الصيت " المعضلة الإجتماعية " تحدثنا كيف أن المُستخدم هو المُنتج بالنسبة للشركات التقنية الكُبرى اليوم ولا أرى أي فرق بين ما تفعله هذه الشركات وما يفعله كثير من مشاهير اليوم الذين يحتلون الساحة .
الإستثمار في الوقت لا يجب أن يكون مجرد شعار يمر مرور الكرام على المسامع بين الحين والآخر، الإستثمار في الوقت ممارسة عملية مستمرة ونمط حياة يتحقق من خلالها الكثير من الرضا والشعور بالإنجاز .. وضياعه اليوم بلا شك هو مشهد مُحزن أشبه بذلك المشهد الحزين الصامت الذي ضرب فيه " فرانك " صديقه " مونتي " في فيلم الساعة الخامسة والعشرون .
إرسال تعليق